الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
الستون: أن المحبة والإخلاص والإنابة: لا تقوم إلا على ساق الرضى.فالمحب راض عن حبيبه في كل حالة وقد كان عمران بن حصين رضى الله عنه استسقى بطنه فبقي ملقى على ظهره مدة طويلة لا يقوم ولا يقعد وقد نقب له في سريره موضع لحاجته فدخل عليه مطرف بن عبدالله الشخير فجعل يبكي لما رأى من حاله فقال له عمران: لم تبكي فقال: لأني أراك على هذه الحال الفظيعة فقال: لاتبك فإن أحبه إلي أحبه إليه وقال: أخبرك بشيء لعل الله أن ينفعك به واكتم علي حتى أموت إن الملائكة تزورني فآنس بها وتسلم علي فأسمع تسليمها ولما قدم سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه إلى مكة وقد كف بصره جعل الناس يهرعون إليه ليدعو لهم فجعل يدعو لهم قال عبدالله بن السائب: فأتيته وأنا غلام فتعرفت إليه فعرفني فقلت: ياعم أنت تدعو للناس فيشفون فلو دعوت لنفسك لرد الله عليك بصرك فتبسم ثم قال: يا بني قضاء الله أحب إلى من بصري وقال بعض العارفين: ذنب أذنبته أنا أبكى عليه ثلاثين سنة قيل: وما هو قال: قلت لشيء قضاه الله: ليته لم يقضه أو ليته لم يكن وقال بعض السلف: لو قرض لحمى بالمقاريض كان أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله: ليته لم يقضه وقيل لعبد الواحد بن زيد: هاهنا رجل قد تعبد خمسين سنة فقصده فقال له: حبيبي أخبرني عنك هل قنعت به قال: لا قال: فهل أنست به قال: لا قال: فهل رضيت عنه قال: لا قال: فإنما مزيدك منه الصوم والصلاة قال: نعم قال: لولا أني أستحي منك لأخبرتك: أن معاملتك خمسين سنة مدخولة يعنى أنه لم يقربه فيجعله في مقام المقربين فيوجده مواجيد العارفين بحيث يكون مزيده لديه: أعمال القلوب التي يستعمل بها كل محبوب مطلوب لأن القناعة: حال الموفق والأنس به: مقام المحب والرضى: وصف المتوكل يعني أنت عنده في طبقات أصحاب اليمين فمزيدك عنده مزيد العموم من أعمال الجوارح وقوله: إن معاملته مدخولة يحتمل وجهين:أحدهما: أنها ناقصة عن معاملة المقربين التي أوجبت لهم هذه الأحوال.الثاني: أنها لو كانت صحيحة سالمة لا علة فيها ولا غش: لأثمرت له الأنس والرضى والمحبة والأحوال العلية فإن الرب تعالى شكور إذا وصل إليه عمل عبده جمل به ظاهره وباطنه وأثابه عليه من حقائق المعرفة والإيمان بحسب عمله فحيث لم يجد له أثرا في قلبه من الأنس والرضى والمحبة: استدل على أنه مدخول غير سالم من الآفات.الحادي والستون: أن أعمال الجوارح تضاعف إلى حد معلوم محسوب وأما أعمال القلوب: فلا ينتهي تضعيفها وذلك لأن أعمال الجوارح: لها حد تنتهي إليه وتقف عنده فيكون جزاؤها بحسب حدها وأما أعمال القلوب: فهي دائمة متصلة وإن توارى شهود العبد لها مثاله: أن المحبة والرضى حال المحب الراضي لا تفارقه أصلا وإن توارى حكمها فصاحبها في مزيد متصل فمزيد المحب الراضي: متصل بدوام هذه الحال له فهو في مزيد ولو فترت جوارحه بل قد يكون مزيده في حال سكونه وفتوره أكثر من مزيد كثير من أهل النوافل بما لا نسبة بينهما ويبلغ ذلك بصاحبه إلى أن يكون مزيده في حال نومه أكثر من مزيد كثير من أهل القيام وأكله أكثر من مزيد كثير من أهل الصيام والجوع فإن أنكرت هذا فتأمل مزيد نائم بالله وقيام غافل عن الله فالله سبحانه إنما ينظر إلى القلوب والهمم والعزائم لا إلى صور الأعمال وقيمة العبد: همته وإرادته فمن لا يرضيه غير الله ولو أعطي الدنيا بحذافيرها له شأن ومن يرضيه أدنى حظ من حظوظها له شأن وإن كانت أعمالهما في الصورة واحدة وقد تكون أعمال الملتفت إلى الحظوظ أكثر وأشق وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وقد اختلف أرباب هذا الشأن في مسألة وهي: هل للرضى حد ينتهي إليه فقال أبو سليمان الداراني: ثلاث مقامات لا حد لها: الزهد والورع والرضى وخالفه سليمان ابنه وكان عارفاحتى إن من الناس من كان يقدمه على أبيه فقال: بل من تورع في كل شيء: فقد بلغ حد الورع ومن زهد في غير الله: فقد بلغ حد الزهد ومن رضي عن الله في كل شيء: فقد بلغ حد الرضى.وقد اختلفوا في مسألة تتعلق بذلك وهي: أهل مقامات ثلاثة أحدهم: يحب الموت شوقا إلى الله ولقائه والثاني: يحب البقاء للخدمة والتقرب وقال الثالث: لا أختار بل أرضى بما يختار لي مولاي إن شاء أحياني وإن شاء أماتني فتحاكموا إلى بعض العارفين فقال: صاحب الرضى أفضلهم لأنه أقلهم فضولا وأقربهم إلى السلامة ولا ريب أن مقام الرضى فوق مقام الشوق والزهد في الدنيا بقي النظر في مقامي الآخرين: أيهما أعلى فرجحت طائفة مقام من أحب الموت لأنه في مقام الشوق إلى لقاء الله ومحبة لقائه ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ورجحت طائفة مقام مريد البقاء لتنفيذ أوامر الرب تعالى واحتجوا بأن الأول محب لحظه من الله وهذا محب لمراد الله منه لم يشبع منه ولم يقض منه وطرا قالوا: وهذا حال موسى صلوات الله وسلامه عليه حين لطم وجه ملك الموت ففقأ عينه لا محبة للدنيا ولكن لينفذ أوامر ربه ومراضيه في الناس فكأنه قال: أنت عبده وأنا عبده وأنت في طاعته وأنا في طاعته وتنفيذ أوامره وحينئذ فنقول في الوجه الثاني والستين: إن حال الراضي المسلم ينتظم حاليهما جميعا مع زيادة التسليم وترك الاختيار فإنه قد غاب بمراد ربه منه من إحيائه وإماتته عن مراده هو من هذين الأمرين وكل محب فهو مشتاق إلى لقاء حبيبه مؤثر لمراضيه فقد أخذ بزمام كل من المقامين واتصف بالحالين وقال: أحب ذلك إلي أحبه إليه لا أتمنى غير رضاه ولا أتخير عليه إلا ما يحبه ويرضاه وهذا القدر كاف في هذا الموضع وبالله التوفيق فلنرجع إلى شرح كلامه قال: الثاني: سقوط الخصومة عن الخلق يعني أن الرضى إنما يصح بسقوط الخصومة مع الخلق فإن الخصومة تنافي حال الرضى وتنافي نسبة الأشياء كلها إلى من بيده أزمة القضاء والقدر ففي الخصومة آفات أحدها: المنازعة التي تضاد الرضى الثاني: نقص التوحيد بنسبة ما يخاصم فيه إلى عبد دون الخالق لكل شيء الثالث: نسيان الموجب والسبب الذي جر إلى الخصومة فلو رجع العبد إلى السبب والموجب لكان اشتغاله بدفعه أجدى عليه وأنفع له من خصومة من جرى على يديه فإنه وإن كان ظالما فهو الذي سلطه على نفسه بظلمه قال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] فأخبر أن أذى عدوهم لهم وغلبتهم لهم: إنما هو بسبب ظلمهم وقال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]فإذا اجتمعت بصيرة العبد على مشاهد القدر والتوحيد والحكمة والعدل: انسد عنه باب خصومة الخلق إلا فيما كان حقا لله ورسوله فالراضي لا يخاصم ولا يعاتب إلا فيما يتعلق بحق الله وهذه كانت حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يكن يخاصم أحدا ولا يعاتبه إلا فيما يتعلق بحق الله كما أنه كان لا يغضب لنفسه فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله فالمخاصمة لحظ النفس تطفىء نور الرضى وتذهب بهجته وتبدل بالمرارة حلاوته وتكدر صفوه قال:الشرط الثالث: الخلاص من المسألة للخلق والإلحاح وذلك: لأن المسألة: فيها ضرب من الخصومة والمنازعة والمحاربة والرجوع عن مالك الضر والنفع إلى من لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا إلا بربه وفيها الغيبة عن المعطي المانع والإلحاح ينافي حال الرضى ووصفه وقد أثنى الله سبحانه على الذين لا يسألون الناس إلحافا فقال تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] فقالت طائفة: يسألون الناس ما تدعو حاجتهم إلى سؤاله ولكن لا يلحفون فنفى الله عنهم سؤال الإلحاف لا مطلق السؤال قال ابن عباس: إذا كان عنده غداء لم يسأل عشاء وإذا كان عنده عشاء لم يسأل غداء وقالت طائفة منهم الزجاج والفراء وغيرهما: بل الآية اقتضت ترك السؤال مطلقا لأنهم وصفوا بالتعفف والمعرفة بسيماهم دون الإفصاح بالمسألة لأنهم لو أفصحوا بالسؤال لم يحسبهم الجاهل أغنياء ثم اختلفوا في وجه قوله تعالى: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]فقال الزجاح: المعنى لا يكون منهم سؤال فيقع إلحاف كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} أي لا تكون شفاعة فتنفع وكما في قوله: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 123] أي لا يكون عدل فيقبل ونظائره قال امروء القيس: على لاحب لا يهتدى لمناره أي ليس له منار يهتدي به قال ابن الأنباري وتأويل الآية: لا يسألون ألبتة فيخرجهم السؤال في بعض الأوقات إلى الإلحاف فيجري هذا مجرى قولك: فلان لا يرجى خيره أي ليس له خير فيرجى.وقال أبو علي: لم يثبت في هذه الآية مسألة منهم لأن المعنى: ليس منهم مسألة فيكون منهم إلحاف قال: ومثل ذلك قول الشاعر:
أي ليس بها أرنب فتفزع لهولها ولا ضب فينجحر وقال الفراء: نفى الإلحاف عنهم وهو يريد نفي جميع السؤال.والمسألة في الأصل حرام وإنما أبيحت للحاجة والضرورة لأنها ظلم في حق الربوبية وظلم في حق المسئول وظلم في حق السائل أما الأول: فلأنه بذل سؤاله وفقره وذله واستعطاءه لغير الله وذلك نوع عبودية فوضع المسألة في غير موضعها وأنزلها بغير أهلها وظلم توحيده وإخلاصه وفقره إلى الله وتوكله عليه ورضاه بقسمه واستغنى بسؤال الناس عن مسألة رب الناس وذلك كله يهضم من حق التوحيد ويطفىء نوره ويضعف قوته وأما ظلمه للمسئول: فلأنه سأله ما ليس عنده فأوجب له بسؤاله عليه حقا لم يكن له عليه وعرضه لمشقة البذل أو لوم المنع فإن أعطاه أعطاه على كراهة وإن منعه منعه على استحياء وإغماض هذا إذا سأله ما ليس عليه وأما إذا سأله حقا هو له عنده: فلم يدخل في ذلك ولم يظلمه بسؤاله وأما ظلمه لنفسه: فإنه أراق ماء وجهه وذل لغير خالقه وأنزل نفسه أدنى المنزلتين ورضي لها بأبخس الحالتين ورضي بإسقاط شرف نفسه وعزة تعففه وراحة قناعته وباع صبره ورضاه وتوكله وقناعته بما قسم له واستغناءه عن الناس بسؤالهم وهذا عين ظلمه لنفسه إذ وضعها في غير موضعها وأخمل شرفها ووضع قدرها وأذهب عزها وصغرها وحقرها ورضي أن تكون نفسه تحت نفس المسئول ويده تحت يده ولولا الضرورة لم يبح ذلك في الشرع.وقد ثبت في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر.وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره فيتصدق به على الناس: خير له من أن يأتي رجلا فيسأله أعطاه أو منعه» وفي صحيح مسلم عنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق به ويستغني به عن الناس: خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه ذلك بأن اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول» زاد الإمام أحمد: «ولأن يأخذ ترابا فيجعله في فيه: خير له من أن يجعل في فيه ما حرم الله عليه» وفي صحيح البخاري عن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة من الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه: خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه» وفى الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه: أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده فقال لهم حين أنفق كل شيء بيده: ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر وذكر الصدقة والتعفف والمسألة: «اليد العليا خير من اليد السفلى فاليد العليا: هي المنفقة واليد السفلى: هي السائلة» رواه البخارى ومسلم وعن حكيم بن حزام رضى الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم قال: «يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى قال حكيم: فقلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا» وكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيما إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئا فقال عمر: إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم: أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه فلم يرزأ حكيم رضي الله عنه أحدا من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي متفق على صحته.
|